Sunday, November 4, 2012

طبيبة في كل مكان و زمان !



من نعم الله علي  أن أصبحت الطبيبة الأولى في العائلة بأكملها ، ولكني أحيانا أمر بمواقف تجعلني أشد على قلبي حتى لا أنكل بهذه الميزة أشد اللعنات والدعوات ، وحتى لا أغير رأيي في كونها نعمة تستحق الحمد . لأن الطب مهنة لا تتخلص منها بمجرد خروجك من المستشفى ، فأنت في البيت طبيب وفي السوق طبيب وفي "جلعة إبليس" طبيب . فهو ابتلاء من الله ، وخاصة في اللحظات التي تكون في حاجة للترفيه عن نفسك قليلا ونسيان أنك طبيب ليأتي شخص أو يحدث موقف وأنت في قمة استمتاعك يجبرك لأن ترجع طبيبا .
 ولازلت أتذكر في يوم الأيام عندما أحبّ أحد الأطباء أن يذكرنا بفضل وعظم أن يكون المرء طبيبا بالرغم من وعورة هذا الطريق فقال : "إن الله إذا أحب عبدا .."  فقاطعته هنا مسرعة وقلت : "ابتلاه" ! فما استطاع الطبيب أن يكتم ضحكه وقال : " لا بل قصدت الحديث .. إن الله إذا أحب عبدا جعل حاجة الناس في/بين يديه" أو شيء من هذا القبيل ، وفي حقيقة الأمر لم أسمع بهذا الحديث من قبل ولا من بعد وقد يكون حديثا ضعيفا ، ولكن الموقف قد يبين لكم الفرق بين نظرتي ونظرته للطب حينها.

و الآن وبعد أن توظفت الحمدلله ، وأصبحت أعمل كطبيبة بشكل رسمي في أحد مستشفيات أبوظبي ، زاد استشعاري لكونها نعمة "إلى حد ما" ، فلا أجمل من أن تساعد مريضا وتخفف عنه ، وتنال من الدعوات الشيء الكثير مقابل شيء بسيط . فبالنسبة لي المردود المعنوي يغني كثيرا عن المردود المادي . ولي من المواقف التي مررت بها خلال هذين الشهرين منذ بدء العمل ما يسعدني دائما ويجعلني أحمد الله على هذه النعمة .

ولكن بمجرد أن أجبر على ممارسة كوني طبيبة خارج نطاق المستشفى وخاصة في التجمعات العائلية هنا تبدأ النقمة !
فلكم أن تتخيلوا كيف أني في أي مجلس أجلسه -أكاد أقسم- لابد وأن يفتح الأشخاص "سيرة" الأمراض التي يعانون منها ، والفحوصات التي خضعوا لها ، وإن كانت نتائج الفحوصات معهم فلا بد أن يعطوني إياها لأقرأها وأعطيهم تحليلاتي . وقد يكون من سوء حظي أن يكون في المجلس من مر بتجربة مريرة مع أحد المستشفيات أو الأطباء ، فإن جميع التهم لتردي مستوى الخدمات الصحية سأكون أنا سببها أو لي باع فيها سواء "تلميحا أو تصريحا" ، ولن أسلم من لسان من في المجلس ولن يراعي أحد كوني طبيبة "fresh" حتى يرحمني الله ، ولا حيلة لي حينها إلا أن أعمل نفسي جدارا لا يسمع ولا يرى ولا يتكلم و لا يفهم شيئا ، لأحفظ لقلبي سلامته ، وأحمي عقلي من أي صدمات تؤثر في قدراته العقلية ، ونفسي من أي إثباطات .
وبسبب ذلك بات حضوري في أي مجلس وتجمع عائلي يسبب لي الكثير من التعب النفسي أحيانا ، فينقلب مزاجي من قمة السعادة إلى قمة الحزن وخاصة إن فتحوا موضوع الأمراض أو إن كان هناك من يشكو لي مرضه وهو شخص عزيز جدا إلى قلبي ولا أستطيع مساعدته .

وليت أن الأمور تقف عند هذا الحد ، فوجودي في البيت يعني أن سأضطر في حدوث أي مصيبة أن أكون أول الراكضين والمتواجدين في المكان . وعند إصابة أي أحد فإن أقرب مركز إسعاف هو غرفتي ، حتى أصبح صندوق الإسعافات الأولية جزء لا يتجزأ من مكونات غرفتي ! 
حتى خادمات منزلنا كم عالجتهن من منبر غرفتي ، أكون في قمة اندماجي في القراءة لتأتي واحدة منهن تعكر مزاجي تشتكي من جرح ما أو وجع فأضطر أن أترك ما أفعل وأصبح خادمة لأمراضهن ! 

وإن استدعت الحاجة حتى النوم قد يقطعونه علي ، حيث اضطر أفراد عائلتي إيقاظي من لذيذ النوم في موقفين مختلفين وكلاهما بعد منتصف الليل . ولا أنسى الموقف حين كنت في ليلة من الليالي نائمة كـ"الأميرة النائمة" ، لتأتي أختي توقظني الساعة الواحدة أو الثانية صباحا تقريبا ، لتخبرني بأن زوجها مغما عليه ، فما كان مني بعين نصف مفتوحة إلا أن أقفز من فراشي وألبس لبس الصلاة بسرعة ، لأذهب لفحصه وأعمل اللازم ، الجميل في الأمر أني استطعت تشخيص حالته بسرعة ، وأكد المستشفى تشخيصي بعد أن أخذته الإسعاف إلى المستشفى ، و مضى الموقف على خير ولله الفضل أولا و أخيرا . 

المواقف التي مررت بها كثيرة جدا ولا أبالغ بالرغم من أني حديثة عهد بالطب ، ولكن لأني الوحيدة في العائلة فكل من هب ودب يستشيرني ، وخذلاني لأهلي في استشاراتهم أكثر من مساعدتي لهم ، فأن في كثير من المواقف أفضل أن يسدي برأيه طبيب أكثر تمرسا مني ، وخاصة الإستشارات الهاتفية من صديقات أخواتي أو أحد من العائلة ، وتجنبا لأي "صدعة راس" أنا في غنى عنها .

أما الموقف الذي ما توقعت أن أمر به يوما في حياتي ولم أحسب له حساب وأكتبه هنا للتاريخ -لأني قد لا أمر بمثله- ، هو إغماء شخص أمامي في أحد المراكز التجارية بدبي (الفيستيفال سيتي) . ففي أحد الأيام عندما كنت أتمشى مع عائلتي الساعة العاشرة مساء تقريبا في المركز مررنا بتجمع شبابي ، لم أعر له أي اهتمام ، ولكن فضول ابنة أختي أحيا شيء من فضولي حين قالت : "أكيد ضرابة" ثم بعدها بثواني "لا ، شخص مغمى عليه" ، هنا بدأ صراع نفسي داخلي انتَصرت فيه في البداية رغبتي بتجاهل الموضوع لعدة أسباب منها الخجل لكثرة الشباب ، وأني حديثة عهد بالطب فمن المؤكد هناك طبيب في المكان أكثر خبرة مني ، ولبنيتي الجسمانية الصغيرة التي لاتوحي أبدا بكوني طبيبة بل طالبة في المدرسة ، ثم بعد ذلك أخذ ضميري يقول لي :"  ما بسامحج طول العمر يا منى لو طلع محتاج طبيب وأنت مارحتيله" ، فلم استطع اسكات ضميري وقلت سأقترب من المكان فإن كان هناك طبيب ما سأبتعد بهدوء  .
اقتربت ولم استطع رؤية المريض ولكن كان الخوف باد على من حوله وهم يجتهدون ما استطاعوا لإيقاظه ، قلت لأحدهم "ممكن اشويه تعطيني طريج" ، فلم يعرني أي اهتمام ظنا منه أني أحد الناس الفضوليين ، قلت بصوت أكثر علوا :" أنا دكتورة ، ممكن تعطوني طريج" ، فانتبه أحدهم وصرخ : " قوموا قوموا هذي دكتورة !" .
 عند وصولي للمريض طلبت منهم أن يخبروني بتفاصيل القصة وكيف أغمى عليه في حين قيامي بالتأكد من نبضه أولا في "الرقبة" والذي كان موجودا ولله الحمد، ثم بعد ذلك أخذت أراقب حركة صدره للتأكد من أنه يتنفس فلم استطع رؤية أي حركة فتوترت قليلا وخاصة أني لا أملك حتى سماعة أسمع بها نَفَسه .
 طلبت منهم الإتصال في الإسعاف ، وحاولت التأكد من التنفس مرة أخرى برفع قميصه ومحاولة الإحساس بنفسه الخارج من أنفه ، وفي وقتها طلبت ممن حولي أن يرفعوا رجله ، ليساعدوا الدم للوصول إلى رأسه ، وكنت أفكر في رأسي أن أبدأ له الإنعاش CPR ، فأن أعملَ شيء قد لايكون يحتاجه وليس في يدي أي خيار آخر خير من أن لا أعمل له شيء وخاصة بأني لم استطع حتى تلك اللحظة بالإحساس بنفسه .
 وفي حينها جاء رجل كبيير في السن وقال: "أنا طبيب" ، و لم استطع أن أتمالك نفسي من الحماس فأخيرا ظهر "كما كنت أظن" من سيساعدني في هذه المصيبة ، شرحت له الحالة ، فقام هو بالتأكد من النبض في يده "على عكس ماتعلمناه" -المهم طالما النبض موجود فلا يهم - ومن ثم بقي واقفا لا يعرف ماذا يعمل وقلت له بأني لم استطع الإحساس بنَفَسه ، فقال ببرود :"لا موجود" دون أن يتأكد ولكن لم أرغب في مجادلته وخاصه أنه كبير في السن .
ثم جاء رجل آخر "يتفلسف" أخذ يمسح على صدر المريض ويقول الآن سيستيقظ الآن . ويا سبحان الله ! لا أدري ماهذه القوة الخارقة التي ستجعل شاب مغمى عليه عدة دقائق يستيقظ بمسح صدره ، وقفت انتظر صاحب اليد الخارقة ، لأنه لم يسمح لي  بعمل شيء وكان يصر بقوله أعطيني دقائق فقط ، كنت أشعر بالتوتر الشديد فلا الطبيب الآخر ساعدني ، وأتى صاحب اليد الخارقة هذا ليعطل عملي ، والمريض لا يستجيب ، ولكني انتهزت الفرصة لأسأل أصحابه إن كان يعاني من أي أمراض أو يتعاطى أي أدوية ، وكانت أجوبتهم كلها تنفي أي تاريخ مرضي له .
كانت الفوضى من حولي شديدة حيث جاء أمن المركز يسألوني بعض الأسئلة في الخطوة القادمة التي يمكن اتخاذها ، وكان صراخ الشباب من حولي يتعالى وهم ينهرون كل من يقترب بسبب الفضول وللمشاهدة فقط ، وآخرين يحاولون إشمام المريض بعض العطور . هنا قررت أن أبدأ الإنعاش وقلت للطبيب الآخر لأسمع رأيه لكنه لم يعطني حق ولا باطل وربما رفض قراري ، ولكني حينها بدأت بالإحساس بحركة تنفسه ، فتوقعت أن يكون قد اقترب من الإفاقة ، وسألت أصحابه عن اسمه فقالوا لي اسمه علي ، فأخذت أناديه باسمه ولكنه لم يستجب فقال لي أحد أصحابه نحن نلقبه ب "عث عث" ، وأخذوا ينادونه بصوت مرتفع :" عث عث .. عثعوث .. عث عث " و لم يستجب بعد ، ولكني كنت حينها مرتاحة لأن نبضه موجود ويتنفس .
طلبت من أحدهم أن يفتح لي "فلاش" هاتفه النقال لأتأكد من استجابة عينه للضوء وكانت تتحرك وبشكل متساوي ، بالرغم من معارضة الطبيب الآخر للفكرة . المهم في تلك الأثناء وصلت الإسعاف ، فتركت المسرح لذلك الطبيب الذي كان يرفض كل ما أعمله وطلبت من أحد أصدقاء "علي" أن يرافقه إلى المستشفى ويخبرهم بالتفاصيل وابتعدت . ولا أدري مالذي حدث بعد ذلك لعلي ولكني نمت مرتاحة بأني عملت ما استطعت عليه برغم العراقيل .

زبدة الحديث أن هكذا هي حياة الطبيب ، قد تكون متعبة ومؤلمة في أحايين كثيرة ، وخاصة بعد خروجه من المستشفى وإضطراره لممارسة مهنته في كل مكان و زمان . ولكن عندما يرى أنه كان سببا في تخفيف ألم ، ورفع مضرة فإنها نعمة لا يعلمها إلا الأطباء .

ودمتم سالمين =)







8 comments:

  1. ماشالله. الل يوفقج اخت منى،، و الله يسهل دربج .. بس عثعثوث ضحكني.

    اخوج: فؤاد

    ReplyDelete
  2. الله يوفج اليميع . شكرا فؤاد .
    أصلا أنا كنت أحس إني بضحك لما كانوا ينادون عث عث بس مسكت نفسي .
    شكرا على الرد مرة ثانية .

    ReplyDelete
  3. منى ، استمتعت كثيراً بعالمك الجديد :)
    أذكر العام الماضي كنتِ سنة سابعة طب !
    الأيّام تمر ..
    شيءْ جميل أن تظل روحكِ الإنسانيّة حاضرة في كل وقت !

    اكتبي كثيراً عن التفاصيل في المشفى ، نحنُ هنا نستمع

    ReplyDelete
  4. عث عث !!!! يمكن لو مكانج جان يودت عمري عن لا اضحك

    الله يعطيج العافيه منى وجعله في ميزان حسناتج

    عالمج جميل ويغبطك الكثير عليه ... يكفي الاجر من وراه ..

    ReplyDelete
  5. أختي الصغيرة، ‫قد يمر وقت قبل أن يغلب سرورك بنفع الناس وتطبيبهم -عند كل موقف يستدعي ذلك- استياءَك من تبعاته التي لا تفارق أحوالك.‬ لست طبيبًا، ولكني أتصور أن الأطباء بعد فترة يعتادون هذه الحال، فمنهم من يزداد عطاؤه، ومنهم يجره الضجر إلى الإهمال أعاذك الله. وأرى أن النية الصالحة خير معين، رزقني الله وإياك الإخلاص.

    ReplyDelete
  6. هالة ..
    يعجبني أن هناك من لا يزال يتابع مدونتي ومن لايزال يستمتع بما أكتب .سبحان الله مرت السنون دون أن أشعر . أنا يا عزيزتي قد انقطع طويلا عن مدونتي هذه المرة لأني بصدد كتابة كتاب عن المواقف التي مررت بها في المستشفى إن شاء الله وقد يرى النور وقد لا يرى . دعواتك يا عزيزة


    dots ..
    أنا ابتسمت حزتها أحيد .. ومسكت نفسي عن لا أضحك احتراما للمريض المغمى عليه . الله يجزيج الخير سعيدة بالمشاركة الأولآ لك في مدونتي =) .


    رحيق ..
    أعتقد أني فعلا بدأت اعتاد الوضع ، اسأل الله أن يرزقني هذه النية الصالحة وأن أتذكر تجديدها دائما .
    سعيدة جدا جدا لعودتك للمدونة رغم انقطاعي شكرا لك .

    ReplyDelete
  7. أ تعلمين ؟
    الجميع لا يفعل ذلك ويزعجكِ بالاستشاراتِ حتى في نومك
    إلا لأنهم ( يثقون بكِ ) !

    وهذا الأمر لن يزيدكِ سوى تمرُساً في الطب
    وخبرةًأكبر :)

    أستمتعتُ كثيراً بتفاصيلكِ
    قرأتُها كاملةً وتمنيتُ أن تدوينتكِ هذه لم تنتهي

    تابعي ..
    ونحنُ سنُتابعكِ يا صديقة

    :") ود

    ReplyDelete
  8. اجمممل ماقرأت ، حلو مررره صح انه صعب وخوف بس احلى شيء انك تساعدين احد وتسمعين هذيك الدعوه الي بتفرحك
    وعقبالي ياررررب اصير دكتوره مثلك ♡
    اختك/هديل ♡♡

    ReplyDelete