وفارقتنا جدتي -رحمها الله- سويعات بعد أن كتبت تدوينتي الأخيرة . عند زيارتي لها في المساء شعرت بأني سأودعها قريبا ، حيث كانت في أسوأ حالاتها ، وكان حدسي في محله حيث وصلني خبر وفاتها ظهر اليوم التالي .
كان يوما مهيبا بكل تفاصيله ، ابتداءً من وصول الخبر لأمي عبر الهاتف ، إلى حملها عبر الأكتاف مسرعين بها لقبرها .
ومن حسن الحظ ، أن سُنحت لي الفرصة لأن أشارك في غسلها وتكفينها ، كان شيئا مؤثرا بكل ماتحمله الكلمة من معنى ، على الرغم من أنها ليست المرة الأولى التي أفقد فيها عزيزا أو أرى فيها ميتا أو جثة ، ولكن حظور غسل ميت والمساعدة في العملية كانت تجربة لن أنساها ماحييت .
لم استطع تمالك نفسي كانت دموعي تجري كماء منهمر طوال عملية الغسل ، وأنا أرى وهم يقلبون جدتي يمنة ويسرة جثة هامدة ، اتذكرها كيف كانت وكيف صارت - حبيبتي رحمها الله- ، واتخيل نفسي مكانها يقلبون جثتي ، ويغسلونني بالسدر والكافور . سبحان الله كان شعوري حينها لا يوصف ، أقول في نفسي هذا مصيري شئت أم أبيت ، سيغسلني الناس يوما ، كما كانت أمي تغسلني وأنا صغيرة الفرق أن أمي كانت حينها تغني لي وهي تضحك أغنيتي التي كنت أحبها "غسل وشك ياقمر بالصابون والحجر" ، وعند موتي ستلهج ألسنة من يغسلونني بالأدعية وهم يبكون .
وكنت طوال الوقت أفكر كيف هو شعور أمي وخالاتي وهم يغسلون أمهم بعد أن كانت هي اللتي تغسلهم أطفالا، وكيف يفركون يدها التي ربتهم وقوت سواعدهم بها ، وما هي المواقف والذكريات التي يسترجعونها برؤية وجهها ، شعرها ، فمها ، يديها ، قدماها ، وكل عضو بل كل خلية فيها . وضعت نفسي مكانهم ، فانهرت ولكن لا أعرف كيف ألهمني الله تذكر قصة وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وكيف أني عندما كنت اقرأ سيرته على مدى أسابيع ، وعشت سيرته ، لم أطق القراءة عن وفاته ، وبكيت وبكيت وأنا أتخيل مواقف الصحابة وشعورهم وهم يسمعون بأن من يحبونه أكثر من نفوسهم قد قبضت روحه ، فلا كربة ولا خبر أشد من هذا ، ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم-: (إذا أصيب أحدكم بمصيبة فليذكر مصيبته بي فإنها أعظم المصائب).
بعد غسلها قمنا بحملها إلى طاولة التكفين ، وبدأنا بلفها بآخر أثوابها من هذه الدنيا -اللهم أبدلها بثياب خضر من سندس وإستبرق- ، وقبل ذلك قمنا بتطييبها بدهن العود ، ولا أعرف لماذا أثار هذا الشيء بكائي أكثر ، أخذت أقول بعد العطور الفرنسية ودهن العود والكريمات المعطرة التي نستخدمها في هذه الدنيا ، سيكون آخر طيب لنا من هذه الدنيا دهن العود ، وبعدها طلبت المغسلة بتظفير شعر جدتي ثلاثة ظفائر ، وانهمرت دموعي وأنا اتخيل نفسي مكانها بل و أنا أتخيل كيف كانت تظفر شعر أمي وخالاتي ، فدارت الدنيا وانقلب الحال . ثم لففناها بقطع بيضاء كما يلف الطفل عندما يولد ، وربطناها أخيرا ، و قام كل شخص منا بتوديعها الوداع الأخير -رحمها الله- قبل أن يواري جثمانها التراب ، ثم دخل الرجال ووضعوها في نعشها وحملوها للصلاة ثم للدفن .
كان اليوم بأكمله عظيما في تفاصيله ، أثر في نفسي كثيرا ، حتى إني ولأول مرة منذ زمن أقفز من فراشي لصلاة الفجر بالرغم من نومي المتقطع ليلتها ، فاللهم يارب ارحم جدتي واجعل قبرها روضة من رياض الجنة وآنس وحشتها كما كانت تؤنسنا بأحاديثها وقصصها ، واغفر لأبي وعمي الذي فارقنا قبل أشهر وارحمهما ومد لهم في قبورهم مد أبصارهم وآنس وحشتهم ، وسائر موتى المسلمين ، وارحمنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه .
هذه قصيدة سمعت أبياتا منها على محض الصدفة اليوم في الإذاعة ، فبحثت عنها وأعجبتني ، والتي كتبها أبو الحسن علي التهامي في ابنه الذي مات وهو في سن الرابعة عشر .
حكم المنية في البرية جار * ما هذه الدنيا بدار قرار
بينا يرى الإنسان فيها مخبرا * حتى يرى خبرا من الأخبار
طبعت على كدر وأنت تريدها * صفوا من الأقذار والأكدار
ومكلف الأيام ضد طباعها * متطلب في الماء جذوة نار
وإذا رجوت المستحيل فإنما * تبني الرجاء على شفير هار
فالعيش نوم والمنية يقظة * والمرء بينهما خيال سار
فاقضوا مآربكم عجالا إنما * أعماركم سفر من الأسفار
وتراكضوا خيل الشباب وبادروا * أن تسترد فإنهن عوار
فالدهر يزرع بالمنى ويغص أن * هنّا ويهدم ما بنى ببوار
ليس الزمان وإن حرصت مسالما * خُلق الزمان عداوة الأحرار
إني ُوترت بصارم ذي رونق * أعددته لطلابة الأوتار
والنفس إن رضيت بذلك أو أبت * منقادة بأزمة المقدار
أثنى عليه بإثره ولو أنه * لم يغتبط أثنيت بالآثار
ياكوكبا ما كان أقصر عمره * وكذاك عمر كواكب الأسحار
وهلال أيام مضى لم يستدر * بدرا ولم يمهل لوقت سرار
عجل الخسوف عليه قبل أوانه * فمحاه قبل مظنة الإبدار
واستل من أترابه ولداته * كالمقلة استلت من الأشفار
فكأن قلبي قبره وكأنه * في طيه سر من الأسرار
إن يعتبط صغرا فرب مقمم * يبدو ضئيل الشخص للنظار
إن الكواكب في علو محلها * لترى صغارا وهي غير صغار
ولد المعزى بعضه فإذا مضى * بعض الفتى فالكل في الأثار
أبكيه ثم أقول معتذرا له * وفقت حين تركب الأم دار
جاورت أعدائي وجاور ربه * شتان بين جواره وجواري
ثوب الرياء يشف عما تحته * وإذا التحفت به فإنك عار
قصرت جفوني أم تباعد بينها * أم صُورت عيني بلا أشفار
جفت الكرى حتى كأن غراره * عند اغتماض العين وخز غرار
ولو استزارت رقدة لطحا بها * ما بين أجفاني من التيار
أُحيي الليالي التم وهي تميتني * ويميتهن تبلج الأسحار
حتى رأيت الصبح تهتك كفه * بالضوء رفرف خيمة كالقار
والصبح قد غمر النجوم كأنه * سيل طغى فطفا النوار
والهون في ظل الهوينا كامن * وجلالة الأخطار في الأخطار
تندي أسرة وجهه ويمينه * في حالة الإعصار والإيسار
ويمد نحو المكرمات أناملا * للرزق أثنائهن مجار
يحوي المعالي كاسبا أو غالبا * أبدا يداري دونها ويداري
قد لاح في ليل الشباب كواكب * إن أمهلت آلت إلى الأسفار
وتلهب الأحشاء شيب مفرقي * هذا الضياء شواط تلك النار
شاب القذال وكل غصن صائر * فينانه الأحوى إلى الأزهار
والشبه منجذب فلم بيض الدمى * عن بيض مفرقة ذوات نفار
وتود لو جعلت سواد قلوبها * وسواد أعينها خضاب عذار
لاتنفر الظبيات عنه فقد رأت * كيف اختلاف النبت في الأطوار
شيئان ينقشعان أول وهلة * ظل الشباب , وخلة الأشرار
لاحبذا الشيب الوفي وحبذا * ظل الشباب الخائن الغدار
وطرى من الدنيا الشباب وروقه * فإذا انقضى فقد انقضت أوطاري
قصرت مسافته وما حسناته * عندي ولا آلاؤه بقصار
نزداد همسا كلما ازددنا غنى * والفقر كل الفقر في الإكثار
ما زاد فوق الزاد خُلِّف ضائعا * في حادث أو وارث أو عار
إني لأرحم حسادي لحر ما * ضمنت صدورهم من الأوغار
نظروا صنيع الله بي فعيونهم * في جنة وقلوبهم في نار
لا ذنب لي قد رمت كتم فضائل * فكأنها برقعت بوجه نهار
وسترتها بتواضعي فتطلعت * أعناقها تعلو على الأستار
ومن الرجال معالم ومجاهل * ومن النجوم غوامض ودراري
والناس مشتبهون في ايرادهم * وتفاضل الأقوام في الأصدار
عمري لقد أوطاتهم طرق العلا * فعموا فلم يقفوا على آثاري
لو أبصروا بقلوبهم لاستبصروا * وعمى البصائر من عمى الأبصار
هلا سعوا سعي الكرام فأدركوا * أو سلموا لمواقع الأقدار
ولربما اعتضد الحليم بجاهل * لا خير في يمنى بغير يسار
.
.
فرؤي التهامي في المنام بعد وفاته ..فقالوا :مافعل بك ربك؟
قال: غفر لي
قالوا : بماذ؟
قال بقولي في بيتي
جاورت أعدائي وجاور ربه ** شتان بين جواره وجواري
رحمه الله وغفر له
كلماتكِ مُؤثرة يا مُنى موقف مهيب جدًا لكن لابد من فراق
ReplyDeleteفهذه سُنة الحياة ، هُم رحلوا جسدًا لكن ذكراهم ستبقى
حاضرة معنا تُسلينا لحين موعد اللقاء هناك في جنان
الرحمن حيثُ مُلتقى الأحبة بإذن الله ..
جمعكِ بأحبابكِ فيها حبيبتي ..
Manal Alotaibi
منال ..
ReplyDeleteوأنا أشهد بأنه موقف مهيب جدا .. سبحان الله .
وآمين لما دعيتِ .
إن لله ما أعطى وله ما أخذ وكل شيء عنده بأجل مسمى، فلتصبروا ولتحتسبوا .. رحمها الله وغفر لها وأعاذها من فتنة القبر وعذابه وجعلها من المقبولين ورفع درجتها إلى أعلى عليين .. اللهم آمين.
ReplyDeleteرحيق.. اللهم آمين
Deleteالله يرحمها ويغفرلها ويبدلها دار خير من دارها وأهل خير من أهلها ويسكنها الفردوس الأعلى إن شاء الله~
ReplyDeleteاحسن الله عزائكم وغفر لميتكم
ReplyDeleteالله يغفر لها ويرحمها